Thursday, December 09, 2004
بيان " هي قصتي "
أنا اكبر منها بـثمانية عشر شهراً، هي حلم حياتي الذي أسعى إليه منذ سنين عديدة.بيتها أقرب بيت لنا، عرفتها عندما كانت صغيرة، لا أذكر متى رأيتها و وقعت عيني عليها، ولكن بكل تأكيد كان عمرها لم يتجاوز الأسبوع الأول.دائماً كنت اسمع أمي و أمها و هما تتحدثان " بيان " لـ " إستبرق " فكنت سعيداً بذلك " بيان " ستكون لي ألعب معها متى ما أشاء، و امشي معها في ممرات قريتنا، و سآخذها معي إلى حيث اذهب، لأنها " ملكي " .مرت السنين في اثر السنين، ازداد ارتباطي بـ " بيان " و ازداد ارتباطها بي و بالكاد كنا نفترق، وإذا افترقنا فعلى أمل اللقاء في اليوم التالي.بلغتُ السادسة من عمري، و بدأت معها أول أيامي الدراسية، كم كانت تلك الأيام بغيضة بالنسبة لي، فهناك خمسُ ساعات يومياً اقضيها خلف أسوار المدرسة بعيدا عن " بيان " و ضحكتها .. و تليها ساعات أخرى اقضيها في أداء الواجبات و الاستذكار، وما كنت استذكر غير وجهها و ابتسامتها، لم أرها طوال الأسبوعين الأولين من الدراسة.بعد أسبوعين تغير الحال، وباتت المدرسة اجمل ما في حياتي و اسعد الساعات هي تلك التي اقضيها وأنا أقوم بحل الواجبات، فعندما دق جرس الانصراف من المدرسة .. خرجت راكضا في طريقي إلى البيت، فكانت أمامي " بيان " تبتسم لي، و على ظهرها حقيبة كحقيبتي، عدنا إلى بيتنا و أصرت أن اعلمها كل ما أتعلمه في المدرسة .. و هي السبب الأول و دافعي الأكبر في التعلم، حتى انقل لها ما أتعلمه بعد انتهاء اليوم الدراسي.و في هذه الفترة أيضاً بدأنا في تعلم الصلاة أنا و أولاد القرية في الطابق الأرضي وهي والبنات في الطابق الأول، ومن يعلمنا الصلاة – نحن الأولاد - شقيق من تعلم البنات الصلاة.قبل أن ينادي المؤذن للصلاة تتوجه " بيان " إلى منزلها لترتدي رداء الصلاة ( الملفع ) ثم اذهب لها و أضع يدي في يدها و نذهب معا لتعلم الصلاة.جمالها و فتنتها تزداد يوما بعد يوم، شعرها البني الداكن المسدل على كتفيها، عينها السوداء المتألقة، بشرتها البيضاء المشربة بالحمرة، شفتاها الخمريتين و ابتسامتها الساحرة ونقش الحناء بكفيها الصغيرتين كل هذه الفتنة يزينها رداء العفة - الملفع - عندما نذهب لتعلم الصلاة.لبست الحجاب و الملاءة السوداء لأول مرة عندما كانت في الثامنة من العمر .. كنـت أقصد معها شاطئ البحر " السِيف " يومياً قبل دقائق قليلة من دخول وقت الصلاة أو صباحاً في أيام الإجازة، ونجلس على تلك الصخرة و نداعب بأرجلنا موج البحر .. ينظر لنا رواد " السِيف " من كبار و صغار بنظرات متفاوتة بين ذهول و استغراب من هذه العلاقة التي تزداد التحاما يوما بعد يوم وبين نظرات الغيرة في أعين من هم في مثل عمرنا .غدا يوم الجمعة ولم يبقى الكثير لامتحانات منتصف الفصل الدراسي الأول " أواسط نوفمبر " و عقدنا العزم على أن تقوم " بيان " بمساعدتي في الاستذكار " كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي و هي في الصف الثالث الابتدائي" لأنها تحفظ جيدا كل ما دَرسته و دَرَّستهُ لها.أوصلتها لمنزلها عند العاشرة مساءً تقريبا بعد أن انتهت القراءة الحسينية التي تعود أبي إقامتها في منزلنا كل ليلة جمعة من كل أسبوع، وبعد أن انتهت من مساعدة والدتي في شؤون التنظيف و إعادة ترتيب المنزل.و عند باب منزلها و دعتُها على أمل اللقاء غدا صباحا كما اتفقنا .. إلى المنزل عدت متعبا فقصدت الفراش طلبا للراحة .. وكان نومي ثقيلا على خلاف العادة .. و لم استيقظ إلا على صوت رنين المنبه عند الثامنة صباحاً .. و معنى هذا أن صوت أذان الصبح لم يفلح في إيقاظي، و كذلك والدتي لم توقظني لأداء الصلاة في وقتها و ذلك أمر غريب وغير معتاد.بداية غير طيبه لهذا اليوم .. أسرعت لقضاء الصلاة الفائتة، و لم انتبه لهدوء البيت، فرغت من الصلاة، جهزت نفسي و كتبي للاستذكار و انتظرت وصول " بيان " لنفطر سويا قبل أن نستذكر، لكنها لم تصل في الوقت المحدد، وكذلك والدتي لم تدخل غرفتي إلى هذا الوقت و هي التي اعتادت أن تدخل الغرفة كل بضع دقائق مبتسمة لي ثم تخرج .. حاولت أن اشغل تفكيري بأي شيء أخر لأقضي على ملل الانتظار .. ولم أوفق في ذلك.خرجت من غرفتي، وانتبهت الآن فقط إلى خلو البيت من سكانه، اتجهت فورا إلى بيت " بيان " دقـقت الباب مـرة و مرتـين وثـلاث .. ولم يفـتـح لي الباب، دقـقت الباب بقوة اكـبر و ناديـتها " بيان " " بيان " " بيان " … ولم يصلني آي جواب من داخل البيت.أطرقت برأسي و أسندت ظهري إلى حائط البيت القريب سمعت صوت بابٍ يفتح، تسارعت نبضاتي رفعت رأسي لأنظر ربما تكون " بيان " .. ولم تكن هي " بيان " بل كانت جارتنا الأخرى العجوز رباب أو كما يسميها الجميع " ربابي " .. نادتني إستبرق تعال، أريد أن أحدثك قليلا.ذهبت لـ " ربابي " .. و أدخلتني معها المنزل، وجهزت لي إفطارا، لم آكل منه أيَّة لقمة، رغم إصرارها الشديد و حلفها بالأيمان المغلظة أن أمد يدي و آكل من إفطارها .. إلى أن وصل بها الأمر أن تقول " وحق ما يحويه قلبك لبيان " .. رفعت رأسي في اتجاه " ربابي " أين هي " بيان " و أهلها وأين هم أهلي أيضا؟.أطرقت " ربابي " و صمتت عن الحديث، وسالت بعض الدموع من عينها، ثم بدأت في الحديث .. لقد داهمت الشرطة منزلهم يوم أمس بعد منتصف الليل و أخذوهم جميعا إلى حيث لا نعلم، ثم عادت الشرطة من جديد قبل صلاة الفجر و معها والد " بيان " ليأخذ بعض المتعلقات من المنزل فلقد صدر قرار بإبعادهم جميعا و ذهب أبوك و أمك مع الشرطة و والد " بيان " ليقوموا بتوديعهم الوداع الأخير.ماذا تقصدين بالإبعاد؟.اقصد أن عائلة " بيان " قد تم طردها و عليها أن تبحث عن وطنِ آخر، دُقَّ بابُ منزل " ربابي " فقمت بفتحه نيابة عنها كانت أمي هي الطارق، ارتميت على صدرها ابكي و هي تبكي معي ... لم استطع أن أتكلم أو أن اطرح أي سؤال على والدتي فلقد ألجمني البكاء و عدنا إلى منزلنا.لم أرَّ أبي في حالة تشبه حالته هذا اليوم، ولم أره يتحامل على حزنه كما هو الآن، ولم أره شارد التفكير كما هي حاله ... طلب مني الجلوس في مواجهته، و قد امسك في يده اليمنى ورقة صغيرة يقلبها من حين لآخر .و قال : و لدي إستبرق لقد بلغت مبلغ الرجال، وعلى الرجال الأشداء أن يثبتوا و أن لا يثنيهم عن عزمهم أي ظرف مهما كان قاسيا و صعبا.. أَعلمُ كم هو مؤلم أن تفقد حلمك الذي سعيت له، ولكن الحياة هي الحياة و فيها الكثير مما يجب أن نتعلمه.سألته، ما معنى الإبعاد؟ ولماذا أبعدوهم؟ و إلى أين؟ و هل يمكننا اللحاق بهم؟أجابني: على رسلك يا ولدي وخفف من انفعالك حتى تعي ما أقوله لك، الإبعاد: هو أن تقوم بطرد الشخص من الوطن الذي يحيا فيه سواء كان حاملا لجنسيته أو لا.قاطعته: و ما هي الجنسية؟أجاب : صبرك يا ولدي حتى أتمكن من إجابتك، الجنسية: هي وثيقة ورقية تثبت انتماء الشخص إلى الأرض التي يقيم عليها وليس كل من يملك الجنسية يملك الانتماء الحقيقي للوطن وليس كل من لا يملكها لا ينتمي لهذا الوطن، واقرب مثال لذلك " نحن ". " أنت و أمك وأنا " لا نملك جنسية هذه الدولة وكذلك لا نعرف لنا وطن غيرها .. وكل ما اعرفه عن أصلنا بان جدي الذي توفي قبل خمسة عشرة سنة عن عـمرٍ فاق التسعين عام ، ولد هنا على هذه الأرض وبين أحضانها.وبسبب عدم امتلاكنا لأوراق الجنسية فرضت علينا الإقامة المؤبدة داخل البلاد وعدم مغادرتها و لهذا لن نتمكن من اللحاق بـ " بيان " و أهلها، إما " بيان " و عائلتها فهم من من يمتلكون الجنسية، ولهم امتداد ضارب في تاريخ هذه الدولة على مدى خمس قرون سابقة، و لكنهم ابعدوا و طردوا من أرضهم و لا نعلم سبب لذلك، و لا نعلم متى سيعودون، قصدوا إحدى الدول القريبة، حتى يختاروا الدولة التي يرغبون العيش فيها مستقبلا، فهم الآن يبحثون عن وطن.لا اعلم أن كنت تفهم ما اعنيه أو لا، ولكن الشيء الذي أريد أن أوصله لك هو أن " بيان " و عائلتها لن تعود قريبا و ربما لن تعود بتاتا و نحن لا نستطيع أن نذهب لهم.أعطاني أبي الورقة التي كانت بيده .. وهو يقول خذ هذه الورقة فهي لك من " بيان " ... ثم خرج عني.فتحت الورقة بسرعة و قرأتها ... دمعت عيني و لكنني ابتسمت بعدها.مضت عشرون سنه و لم تنقطع مراسلاتي مع " بيان " فلقد أصبحت زوجتي أمام الله و الناس، ولم يبقى إلا أن يتحقق أملنا.و الورقة التي كتبتها لي قبل أن ترحل أصبحت توقيعنا المشترك في الرسائل أو المكالمات المتبادلة بيننا .. احتفظ بهذه الورقة في جيبي دائما و لا أًّمِلُ من تكرار قراءتها ففي حروفها تنطبع صورة " بيان ".سيجمع شملنا يوماً وفي البحرين نحتفلُ
Read or Post a Comment
سلام عيون البحرين..
القصة جميلة و لكن هل هي قصة حقيقية؟ و هل انت مؤلف القصة؟
شكراُ